هل الجودة مهمة؟

أ. خالد محمد حسانين فودة .. المشرف الأكاديمي للقسم الدولي

هل الجودة مهمة؟

في عالم يسعى الجميع فيه لإنجاز الأمور بسرعة، قد ننسى أحيانًا أن الجودة هي ما يصنع الفرق الحقيقي بين عمل ينجح وعمل يُنسى.

كثيرًا ما نسمع كلمة "الجودة"، لكنها في أحيان كثيرة تبدو لنا مجرد شعار يتردد بلا معنى. غير أنني مع مرور الوقت اكتشفت أن هذه الكلمة الصغيرة المكونة من أربعة أحرف قادرة على تغيير مسار عمل كامل أو حتى حياة إنسان بأكملها.

أتذكر يومًا طُلب مني إنجاز مهمة كبيرة تتعلق باعتماد مدرسة أمريكية، وكان أمامي وقت محدود وضغط متواصل. كان كثيرون من حولي يقولون: "المهم أن ننجز بسرعة، فلن يلتفت أحد إلى التفاصيل." لكن في داخلي كان هناك صوت آخر يلح عليّ: "إن لم تتقن عملك فلن يُعبّر عنك حقًا." جلست ساعات طويلة أرتب الصفحات، أراجع الأرقام، أبحث عن مصادر موثوقة، وأعيد كتابة العبارات مرات ومرات حتى أصبحت أكثر وضوحًا وسلاسة. حتى الألوان والخطوط لم أتركها للصدفة؛ كنت أغيّر وأعيد التصميم وكأنني أرسم لوحة لا مجرد تقرير.

وفي ليلة التسليم الأخيرة، رغم التعب والإرهاق، أضفت لمسات صغيرة ربما لم يلحظها أحد غيري، لكنها بالنسبة لي كانت بصمة شخصية. وعندما جاء يوم العرض، جلست أترقب ردود الفعل بقلق شديد. لكن المفاجأة أن الجميع انتبه لما أنجزت. الإدارة أثنت على العمل، والزملاء أعجبوا بالتنظيم، والطلاب وجدوا فيه وضوحًا وسهولة. لم يكن الأمر مجرد تقرير، بل تحول إلى نموذج اعتمدته الإدارة واحتفظت به لتعميمه في العام المقبل. عندها فقط شعرت أن السهر والتعب لم يذهبا سُدى، وأن الجودة قادرة على أن تجعل عملك يعيش طويلًا بعد أن تنساه أنت نفسك.

وما حدث في عملي تكرر معي في حياتي اليومية. ذات يوم أردت شراء جهاز إلكتروني، فاخترت الأرخص نسبيًا ظنًا مني أنني أوفّر المال. لكن ماهى إلا شهور قليلة وبدأ الجهاز يتعطل، وأصبحت أتنقل بين مراكز الصيانة حتى دفعت في النهاية أكثر من ثمنه الأصلي. عندها أدركت أن ما ظننته توفيرًا لم يكن إلا خسارة متكررة. وبعد فترة قررت شراء جهاز أصلي بجودة عالية، رغم أن ثمنه كان أكبر. الغريب أنني لم أذهب لإصلاحه مرة واحدة، وظل يخدمني سنوات طويلة بلا أي متاعب. عندها تعلمت أن الجودة قد تبدو مكلفة في البداية، لكنها في حقيقتها أوفر بكثير، لأنها تمنحك راحة بال وتقيك من الوقوع في الأخطاء نفسها مرارًا.

تجربتان مختلفتان، لكنهما أوصلتاني إلى النتيجة نفسها: الجودة ليست رفاهية. إنها طريق النجاح في العمل، وضمان الراحة في الحياة، وهي التي تمنحك احترام نفسك قبل احترام الآخرين لك. لذلك، حين يسألني أحدهم: هل الجودة مهمة؟ أبتسم وأقول: ليست مهمة فقط، بل هي الفارق بين حياة مليئة بالإنجازات، وحياة تمتلئ بأعمال تُنجز سريعًا لتُنسى سريعًا.

ولعل أجمل ما يلخص ما تعلمته قول الحكيم: "ما بُني على الإتقان دام، وما بُني على التسرع خام."

Administrator October 1, 2025
Share this post
Archive
Sign in to leave a comment
هل تحتاج للمساعدة ؟
Contact us via WhatsApp.
تواصل معنا عبر الواتس آب
ابدأ الدردشة الآن